لقاء مع نساء فلسطينيّات تحت الاستعمار الصهيونيّ | أرشيف

السيّدة ميشلين عواد - بيت ساحور

 

المصدر: «مجلّة العربي».

زمن النشر: 1 نيسان (إبريل) 1981.

الكاتبة: روز ماري صايغ. 

العنوان الأصليّ: «تقرير مثير من داخل الأرض المحتلّة؛ لقاء مع النساء الفلسطينيّات تحت الاحتلال الإسرائيليّ».

 


 

المقاومة الداخليّة في فلسطين المحتلّة تزداد باستمرار، ويزداد معها القمع الإسرائيليّ، وكَثر ظهور الطلّاب وصغار التلامذة والنساء على مسرح الأحداث. بدا المجتمع الفلسطينيّ وكأنّه انتهج نظامًا جديدًا في توزيع الأعمال بين النساء والرجال؛ فقد تخلّف بعض الذكور عن أداء بعض أدوارهم السياسيّة، وذلك بحكم التزامهم بالعمل وكسب الرزق وإعالة أهلهم، فحلّت النساء محلّهم في القيام بتلك الأدوار. ولئن ظلّت كفّة الرجال هي الراجحة بين المناضلين والسجناء السياسيّين والمُبْعدين، فإنّ النساء قد شاركنهم في شتّى ضروب المقاومة، المقاومة المسلّحة بكلّ ما تنطوي عليه من مخاطر، والمقاومة المدنيّة الّتي لا تقلّ خطورة في بعض الأحيان عن المقاومة المسلّحة.

إنّ كلّ يوم من أيّام زيارتي كان يأتي بدليل جديد على فعاليّة النساء. أحد الأحداث النموذجيّة هو اعتقال ثمانية نساء من نابلس، بمَنْ فيهم زوجة رئيس بلديّة المدينة بسّام الشكعة، بتهم القيام بمظاهرات غير مشروعة وإلقاء الحجارة على السيّارات العسكريّة الّتي أُرسِلَت لتفريق تلك المظاهرات. وهكذا تعذّر عليّ الاجتماع بالسيّدات اللاتي كنت أريد مقابلتهنّ، وذلك بسبب دوّامة الاجتماعات، والمؤتمرات الصحافيّة، والمظاهرات، وما إلى ذلك من صنوف العمل الوطنيّ الّذي غمرهنّ. أمّا الّلاتي تمكّنت من لقائهنّ، فكنّ معظمهنّ ممّن تعرّضن للاستجواب أو السجن أو لكليهما معًا.

 

آخر الباقين في الميدان

ما تزال تلك الصور عالقة في ذهني، منها صور المظاهرة النسائيّة في مدينة رام الله وقد شاهدتها على التلفزيون، وشاهدت طائرة هيلوكبتر تحلّق فوقها، وقذيفة الغاز المسيل للدموع ملقاة أمامها وقد تصاعد منها الدخان، ثمّ صورة المرأة العجوز وهي تعرج، وكانت آخر من غادر الميدان. ثمّ صورة إحدى المحاكم في ’تل أبيب‘، حيث تظهر ثلاث شابّات – معلّمات – وهنّ يرتدين ألوان الراية الفلسطينيّة الممنوعة، ويتحدّين حقّ المحكمة في محاكمتهنّ بتهمة التخريب. وكذلك صورة الفتيات الّلاتي ركبن الأوتوبيس من القدس إلى غزّة، ورحن يردّدن الأناشيد الوطنيّة الفلسطينيّة، والنساء بالأوشحة البيضاء والأردية الطويلة، وقد أخذن يصحنَ بغضب في وجوه الجنود الإسرائيليّين عند حاجز على الطريق قرب بيت لحم.

لقد بلغ عدد النساء اللّواتي حُكِمَ عليهنّ بالسجن المؤبّد أو احتُجِزْنَ لبضعة أيّام إلى 2000 امرأة على أقلّ تقدير، وذلك ما بين عامي 1968-1977، كما ذكر أحد الباحثين. وربّما كان هذا الإحصاء أقلّ بكثير من الحقيقة نظرًا لأنّه أَغْفَلَ الحالات الّتي لم تذكرها الصحافة، وكذلك الاعتقالات الجماعيّة الّتي لم تُعلَنْ أسماء المعتقلات فيها. إنّه سجلّ بالغ الأثر، ينسف تمامًا صورة المرأة العربيّة ’الصامتة‘، ’السلبيّة‘، مثلما ينسف نظريّة أخرى صادفتها تقول إنّ النساء الفلسطينيّات أقلّ من شقيقاتهنّ الجزائريّات ارتباطًا بالنضال الوطنيّ. ولعلّ الفرق الكبير بين هاتين الحالتين يُعزى إلى موقف أجهزة الإعلام، لا إلى مساهمتهنّ الفعليّة.

لقد أخبرتني إحدى المحاميات الّتي تدافع عن الكثير من الفلسطينيّين المتّهمين بتهم سياسيّة، أنّ النساء يقاومن الاستجواب بشكل أفضل من الرجال، وهي تعلّل ذلك في أنّ النساء أقلّ احتكاكًا بالإسرائيليّين في الحياة اليوميّة. لكنّ تفسيرًا آخر يردّ الظاهرة إلى أنّ النساء الّلاتي ينخرطن في النشاط السياسيّ، لا مفرّ لهنّ من تحدّي الأهل، أو ’حكومة‘ العائلة‘ أوّلًا، قبل تحدّي الاستعمار الإسرائيليّ؛ فذلك يعدّ خروجًا عن المألوف، ويضمن لتلك النسوة مرانًا إضافيًّا، ومزيدًا من القدرة على العناد والمقاومة، وهي القدرة الّتي تتجلّى في الأقلّيات عادة؛ فالسياسة بالنسبة للرجال ممارسة طبيعيّة، وهي جزء ممّا يُفطَرون عليه بحكم كونهم رجالًا، والكثيرون ممّن يخوضون ميدان السياسة ليسوا شجعانًا من قريب أو من بعيد، ومهما يكن من أمر، فالصمود أو العناد يظلّ أمرًا تلقائيًّا إلى حدّ كبير، دون حاجة إلى مران أو تدريب.

الغريب أنّ استجواب النساء أصبح القاعدة المطردة في الأرض المحتلّة؛ فالمرأة هناك لا مفرّ من استجوابها إن عاجلًا أو آجلًا. هذا ما لمسته لدى النساء الّلاتي قابلتهنّ؛ فقد توقّعنه، بل قل سلّمن بوقوعه في يوم من الأيّام. ويبدو الأمر كما لو كان الاستجواب قد أصبح شعيرة من شعائر النضوج وبلوغ سنّ الرشد، والدليل على تخطّي الفتاة عهد الطفولة إلى عهد المرأة المسؤولة. وقد حدّثتني ’راغدة‘ دون أيّ انفعال، عن الأسبوعين اللذين قضتهما في مركز تحقيق ’المسكوبيّة‘ الصهيونيّ، حين سعى الإسرائيليّون إلى إرغامها على توقيع ’اعتراف‘ بانتمائها لـ ’منظّمة التحرير الفلسطينيّة‘، وقد سعوا إلى ذلك بشتّى الوسائل ومنها إيقاظها المفاجئ من النوم، وتعريضها للضجّة والإزعاج المستمرّ، وإكراهها على خلع ملابسها ووقوفها أمام المستجوب عارية، وشتمها بأنّها ’مومس‘ وتهديدها بالاغتصاب.

هذا هو الاستجواب العاديّ الّذي لا بدّ من توقّعه.

 

حتّى تمليذات المدارس

لم تسلم تلميذات المدارس الصغيرات من هذا الأسلوب الوحشيّ، وقد خضعن له بشكل متزايد فحُمِلْنَ على التورّط في العمل السياسيّ في سنّ مبكّرة. فقد تمكّنت من مقابلة انتصار الشيخ قاسم، وهي تلميذة في الخامسة عشرة، في بيتها في مخيّم الجلزون، بالقرب من رام الله. تعرّضت هذه الفتاة للضرب المبرّح بالقضبان المعدنيّة، وذلك على كلا فخذيها، وبقصد إرغامها على الإفشاء بأسماء زميلاتها التلميذات الّلاتي يشتركن في المظاهرات. وأظهرت الصور الّتي شاهدتها في الصحف في القدس فخذي انتصار المتورّمين برضوضهما الداكنة ورأسها مغطّى. وشعرت بالإعجاب لشجاعتها في احتمالها لتلك المحنة، بقدر ما شعرت به لعدم خضوعها للاستجواب الإسرائيليّ. وعندما اجتمعت بها في مخيّم الجلزون، وجدتها فتاة باسمة أنيقة في ثياب ’الجينز‘، وتبدو وكأنّها تخطّت محنتها المفزعة بشكل نهائيّ، وقال لي والدها إنّها طالبة ممتازة، وقد كان ينوي أن تصبح مدرّسة أو ممرّضة.

تبيّن قصّة انتصار أساليب الاستعمار الصهيونيّ في الاقتصاص من الصغار بهدف التحكّم وإنزال العقاب الجماعيّ بالكبار؛ فقد تظاهرت، كما تظاهرت أكثر طالبات الضفّة الغربيّة، ضدّ إبعاد بسّام الشكعة؛ فاستُدْعِيَت هي وزميلتان لها أثناء الدوام في المدرسة، وأُحْضِرنَ إلى مكتب الحاكم العسكريّ لاستجوابهنّ، وخلال الأسابيع الثلاثة الّتي استغرقها الاستجواب، كانت حياة أسرتها كلّها ممزّقة؛ ففي كلّ يوم كان والداها يصحبانها إلى المبنى الكئيب، الّذي تحيط به الأسلاك الشائكة، والّذي تُحْكَمُ منه الضفّة الغربيّة جميعها. واتَّفَقَ أنّ كانت أمّها هي الّتي رافقتها إلى هناك يوم ضربها بالقضبان المعدنيّة؛ فكانت الأمّ تجلس مع الأخريات في الممرّ، تسمع صراخ ابنتها، ولا تستطيع أن تفعل أيّ شيء. أمّا أبوها، وهو عامل بناء، فقد خَسِرَ أجرَ أسبوعين، وتحمّل أتعاب المحاماة وقد بلغت عشرون ألف شيكل إسرائيليّ.

على أنّ ظهور صور انتصار في الصحافة كان مربكًا لأسرتها وخطرًا على مستقبلها، وقد أخبرني والدها أنّه لم يمنعها أبدًأ من الاشتراك في المظاهرات، بالرغم من أنّه لم يكن راضيًا عن ظهور صورها في الجرائد. ولعلم الأب بقدرة سلطات الاستعمار على عرقلة تعليم ابنته بسهولة – كما فعلت في حالات كثيرة، وعلى الأخصّ في مخيّم الجلزون – فقد وقّع على إقرار ينكر فيه الاتّهامات بأنّ انتبه تعرّضت للضرب.

وقد أخبرتني والدة انتصار – وهي امرأة هادئة، جميلة، لها وجه ينطق بالقوّة، وعينان تنطقان بالذكاء – أنّها تدعو الله ألّا تمرّ أيّ أمّ أخرى بمثل تجربتها.

 

العائلة تدفع الثمن

المنخرطون في المقاومة، بصرف النظر عن مدى انخراطهم، يعلمون أنّه لا بدّ أن تتعرّض عائلاتهم للأذى إذا قُبِضَ عليهم؛ فغالبًا ما يُلقى بالأبوين في السجن مع أبنائهم لمجرّد الاشتباه بهؤلاء الأبناء، أو لرفض الآباء الإفشاء بأماكن وجودهم. وبيوت المناضلين المشتبه فيهم إمّا أن تُنْسَفَ أو تُغلَقَ بالشمع الأحمر. ولا تُستَثْنَى من ذلك أحيانًا البيوت المستأجرة، كما في حالة إحدى المدرّسات الّتي حُوكِمَتْ مؤخّرًا.

ويلاحظ أنّ سلطات الاستعمار ما زالت تردّ على مقاومة الأطفال العنيدة بإجراءات قمعيّة تزداد شدّة يومًا بعد يوم، مثل منع التجوّل، الضرب، اقتحام البيوت، تكسير النوافذ والأثاث، وإرغام الناس على البقاء في العراء طوال الليل. والغرض واضح: إرغام الفلسطينيّين على ضبط أطفالهم ومنعهم من أعمال المقاومة، وهو أمر مستحيل. والمرجّح أنّ الآباء لا يحاولونه باستثناء قلّة نادرة. وقد فَشِلَت هذه السياسة، لكنّ الثمن الّذي يدفعه الفلسطينيّون لإفشالها باهظ ويرتفع طوال الوقت، ويتوقّع سكّان مخيّم الجلزون إقدام السلطات على إجلائهم بالقوّة.

والإناث – فتيات ونساء – معرّضات للاضطهاد، لا بصفتهنّ فلسطينيّات فحسب، وإنّما بصفتهنّ إناثًا أيضًا؛ فالاعتداء الجنسيّ سلاح غالبًا ما تستعمله سلطات الاستعمار، لكنّ فهم الإسرائيليّين للسيكولوجيّة العربيّة، يؤدّي بهم إلى التفنّن في استخدامه. وذلك بقصد تنفير النساء من الانخراط في المقاومة، ناهيك بالضغط على عائلاتهنّ لمنعهنّ عنها؛ فهم يدركون ما لـ ’الشرف‘ من قيمة وخطورة في حياة الفلسطينيّين، ويتّخذون من الاغتصاب في الأراضي المحتلّة إجراءًا عقابيًّا من بين العديد من الإجراءات الّتي تسعى لبثّ الرعب والسيطرة على السكّان جميعًا.

وبالرغم من كلّ ما تعانيه النساء بسبب نشاطهنّ الثوريّ المباشر، فإنّهنّ يتعرّضن لأضعاف ذلك من عذاب أو تهديد لا لسبب إلّا من أجل الضغط على أزواجهنّ وإخوتهنّ، وما أكثر الرجال الّذين قاوموا الاستجواب، ولكنّهم، ما لبثوا أن انهاروا حين هُدِّدوا بإلحاق الأذى بشقيقاتهنّ.

وثمّة الكثير من الأمثلة على ذلك في شتّى الروابط الّتي تجمع بين الجنسين، من الحبّ إلى الحماية فالخوف أو العار، كلّها روابط استُخْدِمَت لتحطيم المقاومة الجماعيّة. لكنّ هذه الأساليب القمعيّة لم تحقّق أهدافها حتّى الآن؛ فالمقاومة تبدو في تعاظم لا في انكماش، لكنّ الخوف ألّا ترى سلطات الاستعمار ذلك فلا تدرك أنّ سياسة ’العقاب العائليّ‘ سياسة فاشلة، بل تعتقد أنّ العلّة هي في عدم التمادي في تطبيق تلك السياسة إلى أٌقصى حدّ ممكن. ويبدو أنّ المستوطنين من جماعة ’غوش إيمونيم‘، بالتحديد، أقرب إلى الأخذ بهذا النوع من العقاب، أو الاستفزاز؛ ففي العام الماضي في رام الله، وفي فترة التوتّر الّتي سبقت الهجوم على الشكعة مباشرة، اختطف أولئك المستوطنون فتاة عربيّة لبضع ساعات، وذلك بقصد الاستفزاز وإثارة الاضطرابات الجماعيّة كما بدا للكثيرين.

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.